فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في السورة الكريمة:

قال عليه الرحمة:
سورة التكاثر:
قوله جل ذكره: بسم الله الرحمن الرحيم
{بسم الله} اسم عزيز تقدس في آزاله عن كل مكان، ولم يحتج في آباده إلى زمان أو إلى مكان، لا يقطعه حد فأنى يجوز في وصفه المكان؟ ولا يقطعه عد فأنى تجوز في زصفه الزيادة والنقصان؟
قوله جلّ ذكره: {ألَهَاكُمُ التَكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ}.
أي: شَغَلَكم تَفَاخُرُكم فيما بينكم إلى آخر أعماركم إلى أَنْ مِتُّم.
ويقال: كانوا يفتخرون بآبائهم وأسلافهم؛ فكانوا يشيدون بذكر الأحياء، وبمن مضى من أسلافهم.
فقال لهم: شَغَلكم تفاخركم فيما بينكم حتى عَدَدْتم أمواتكم أحيائِكم.
وأنساكم تكاثركم بالأموال والأولاد طاعةَ الله.
{كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ}.
على جهة التهويل.
{كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ}.
أي: لو علمتم حقَّ اليقين لارتدعتم عمَّا أنتم فيه من التكذيب.
{لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}.
أراد جميعَ ما أعطاهم اللَّهُ من النعمة، وطالَبهم بالشكر عليها.
ومن النعيم الذي يُسَألُ عنه العبد تخفيفُ الشرائع؛ والرُّخَصُ في العبادات.
ويقال: الماء الحار في الشتاء، الماء البارد في الصيف.
ويقال: منه الصحَّةُ في الجسد، والفراغ.
ويقال: الرضاءُ بالقضاء. ويقال: القناعة في المعيشة.
ويقال: هو المصطفى صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.قال السبكي:

قوله تعالى: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ} سَأَلَ سَائِلٌ عَنْ هَذَا التَّرْتِيبِ، إنْ كَانَ مِنْ تَرْتِيبِ الْجُمَلِ بِمَعْنَى أَنَّهُ أَقْسَمَ عَلَى رُؤْيَتِهَا ثُمَّ أَقْسَمَ عَلَى رُؤْيَتِهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ثُمَّ أَقْسَمَ عَلَى السُّؤَالِ فَوَاضِحٌ؛ لَكِنَّهُ لَيْسَ الْمُتَبَادِرَ إلَى الْفَهْمِ مِنْ الْآيَةِ، فَإِنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ التَّرْتِيبُ فِي الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ بَلْ فِي نَفْسِ الْمُقْسِمِ، وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ الْآيَةِ أَنَّهُ فِي الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ فلابد مِنْ طَرِيقٍ لِتَحْقِيقِ هَذَا الْمُتَبَادَرِ، وَالْقَسَمُ إنْشَاءٌ لَا يَقْبَلُ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الضَّرْبَيْنِ، بَلْ لَهُ أَنْ يَضْرِبَهُمَا مَعًا أَوْ يَضْرِبَ عَمْرًا ثُمَّ زَيْدًا، فَإِنَّهُ إنَّمَا رَتَّبَ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ لَا بَيْنَ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِمَا.
فَالْوَجْهُ فِي فَهْمِ الْآيَةِ أَنْ نَقول: {ثُمَّ} دَالَّةٌ عَلَى تَأَخُّرِ مَا بَعْدَ رُؤْيَةِ الْجَحِيمِ الأولى، وَكَأَنَّهُ بَعْدَ رُؤْيَةِ الْجَحِيمِ {لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} وَلَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَقول إنَّ (بعد) ظَرْفٌ مُقَدَّمٌ لِأَنَّ الْقَسَمَ لَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ فَلَا يَعْمَلُ مَا بَعْدَهُ فِيمَا قَبْلَهُ لَكِنَّا نَقول هُوَ ظَرْفٌ لِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ {لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} وَاَللَّهِ وَهَكَذَا التَّقْدِيرُ فِي الْجُمْلَةِ الثَّالِثَةِ.
فَالْقَسَمُ الْآنَ عَلَى مَا يَقَعُ مُرَتَّبًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَنَظِيرُهُ قوله إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَوَاَللَّهِ لَا وَطَئْتُكِ فَهُوَ قَسَمٌ الْآنَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَطَأُ بَعْدَ دُخُولِ الدَّارِ فَالْمُعلق فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ لَا الْقَسَمُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ التَّعْلِيقِ يَقْتَضِي أَنَّهُ الْقَسَمُ لِأَنَّهُ الَّذِي جُعِلَ جَزَاءً فَالشَّرْطُ كَالْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا وَالْقَسَمُ كَالْجُمَلِ الْمَعْطُوفَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، هَذَا كُلُّهُ إنْ قَدَّرْنَا الْقَسَمَ بَعْدَ قَسَمٍ يَقْبَلُ اللَّامَ أَمَّا إذَا قَدَّرْنَاهُ قَسَمًا واحدًا قَبْلَ {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} شَامِلًا لِلْجُمَلِ الثَّلَاثِ فَلَا يَأْتِي هَذَا الْإِمْكَانُ وَيَكُونُ قَدْ أَقْسَمَ قَسَمًا واحدًا لَا أَقْسَامًا ثَلَاثَةً، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ هَذَا الْبَحْثِ إذَا حَلَفَ فَقال وَاَللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ زَيْدًا ثُمَّ وَاَللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ عَمْرًا ثُمَّ وَاَللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ خَالِدًا كَانَتْ ثَلَاثَةَ أَيْمَانٍ؛ وَكَوْنُ الْيَمِينِ عَلَى الثَّلَاثِ الْآنَ لَا شَكَّ فِيهِ، وَهَلْ يَجِبُ التَّرْتِيبُ، هَذَا مُحْتَمَلٌ.
وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى نِيَّتِهِ فَإِنْ نَوَى التَّرْتِيبَ لَمْ يَبْرَأْ إلَّا بِالتَّرْتِيبِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ كَفَى وُجُودُ الثَّلَاثِ كَيْفَ اتَّفَقَ؛ وَمَتَى تَرَكَ الثَّلَاثَ لَزِمَهُ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ، وَإِنْ فَعَلَ واحدة وَتَرَكَ ثِنْتَيْنِ لَزِمَهُ كَفَّارَةُ مَا تَرَكَ، وَإِذَا قال: وَاَللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ زَيْدًا ثُمَّ لَأَضْرِبَنَّ عَمْرًا ثُمَّ لَأَضْرِبَنَّ خَالِدًا، كَانَتْ يَمِينًا واحدة مَرْتَبَةً عَلَى الثَّلَاثِ فِي قُوَّةِ قوله: وَاَللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ زَيْدًا ثُمَّ عَمْرًا ثُمَّ خَالِدًا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إلَّا زِيَادَةَ التَّأْكِيدِ فِي كُلِّ واحدة، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَيُقال إنَّ قوله وَاَللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ زَيْدًا ثُمَّ عَمْرًا ثُمَّ خَالِدًا يَمِينًا واحدة بِلَا إشْكَالٍ، وَمَتَى أَعَادَ اللَّامَ فِي الِاثْنَيْنِ كَانَتْ ثَلَاثَةَ أَيْمَانٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يُقَدِّرُ الْقَسَمَ فِي كُلٍّ مِنْهَا؛ بَلْ هُوَ فِي الْإِثْبَاتِ كَلَا فِي النَّفْيِ إذَا قال وَاَللَّهِ لَا ضَرَبْت زَيْدًا وَلَا عَمْرًا فَإِنَّهَا يَمِينَانِ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْيَمِينِ واحدًا، وَهَذَانِ الِاحْتِمَالَانِ قُلْتهمَا تَفَقُّهًا لَا نَقْلًا وَلَا يَتَرَجَّحُ الْآنَ مِنْهُمَا عِنْدِي شَيْءٌ.
وَلَعَلَّهُ يَقْوَى عِنْدِي إنْ شَاءَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ هَذَا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي، فَإِنَّنِي مَائِلٌ إلَيْهِ، وَلَكِنَّنِي لَمْ أَجِدْ الْآنَ دَلِيلًا يَنْهَضُ تَرْجِيحُهُ انتهى. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
سورة التكاثر فِيهَا آيَتَانِ:
الْآيَةُ الأولى قوله تعالى: {أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ} فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الأولى:
قال الْمُفَسِّرُونَ: إنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ.
قال ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ، وَلَنْ يَمْلَأَ فَاهُ إلَّا التُّرَابُ. وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ».
فَقال ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أُبَيٍّ قال: كُنَّا نَرَى هَذَا مِنْ القرآن حَتَّى نَزَلَتْ {أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ}.
وَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ مَلِيحٌ غَابَ عَنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، فَجَهِلُوا وَجَهَّلُوا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى الْمَعْرِفَةِ.
المسألة الثَّانِيَةُ:
قَدْ كُنَّا أَمْلَيْنَا فِيهَا مِائَةً وَثَمَانِينَ مَجْلِسًا، وَذَكَرْنَا أُنْمُوذَجَهَا فِي قَانُونِ التَّأْوِيلِ فَلْيُنْظَرْ فِيهِ، فَهُوَ مَدْخَلٌ عَظِيمٌ.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ} فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الأولى:
ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي النَّعِيمِ أَقْوَالًا كَثِيرَةً، لُبَابُهَا خَمْسَةٌ: الأولى: الْأَمْنُ وَالصِّحَّةُ.
الثَّانِي: السلامةُ.
الثَّالِثُ: لَذَّةُ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ؛ قالهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.
الرَّابِعُ: الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ؛ قالهُ الْحَسَنُ.
الْخَامِسُ: شِبَعُ الْبَطْنِ، وَشُرْبُ الْمَاءِ الْبَارِدِ.
المسألة الثَّانِيَةُ:
تَحْقِيقُ النَّعِيمِ مِنْ النِّعَمِ، وَبِنَاءُ (نَ عَ مَ) لِلْمُوَافَقَةِ، وَأَعْظَمُهَا مُوَافَقَةً مَا قال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِوَايَةِ كَادِحِ بْنِ رَحْمَةَ أَنَّهُ صِحَّةُ الْبَدَن وَطِيبُ النَّفْسِ، وَقَدْ أَخَذَهُ الشَّاعِرُ، فَقال:
إذَا الْقُوتُ يَأْتِي لَك وَالصِّحَّةُ وَالْأَمْنُ ** وَأَصْبَحْت أَخَا حُزْنٍ فَلَا فَارَقَك الْحُزْنُ

وَقَدْ كَانَ هَذَا يَتَأَتَّى قَبْلَ الْيَوْمِ، فَأَمَّا فِي هَذَا الزَّمَانِ فَإِنَّهُ عَسِيرُ التَّكْوِينِ، وَقَلِيلُ الْوُجُودِ.
وَيرى كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَالِكًا أَخَذَهُ مِنْ حِكَمِ لُقْمَانَ؛ فَفِيهَا أَنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ قال لِابْنِهِ: لَيْسَ غِنًى كَصِحَّةٍ، وَلَا نَعِيمٌ كَطِيبِ نَفْسٍ.
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ، عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ قال: لَمَّا نَزَلَتْ: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ} قال الزُّبَيْرُ: يَا رسول اللّه عَنْ أَيِّ نَعِيمٍ نُسْأَلُ، وَإِنَّمَا هُمَا الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ؟ قال: «أَمَا إنَّهُ سَيَكُونُ».
وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ} قال النَّاسُ: يَا رسول اللّه؛ عَنْ أَيِّ النَّعِيمِ نُسْأَلُ؟ فَإِنَّمَا هُمَا الْأَسْوَدَانِ؛ وَالْعَدُوُّ حَاضِرٌ، وَسُيُوفُنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا؟ قال: «أَمَا إنَّهُ سَيَكُونُ».
قال الْقَاضِي: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ، نَزَلَتْ بَعْدَ شَرْعِ الْقِتَالِ.
وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قال: بَلَغَنِي أَنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَوَجَدَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقالا: أَخْرَجَنَا الْجُوعُ. فَقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «وَأَنَا أَخْرَجَنِي الْجُوعُ؛ فَذَهَبُوا إلَى أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيْهَانِ، فَأمر لَهُمْ بِشَعِيرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِلَ، وَقَامَ فَذَبَحَ لَهُمْ شَاةً، وَاسْتَعْذَبَ لَهُمْ مَاءً، فَعلق فِي نَخْلَةٍ، ثُمَّ أُتُوا بِذَلِكَ الطَّعَامِ، فَأَكَلُوا مِنْهُ، وَشَرِبُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، فَقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لَتُسْأَلُنَّ عَنْ نَعِيمِ هَذَا الْيَوْمِ».
قال الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَالْحَدِيثُ مُسْنَدٌ مَشْهُورٌ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا نَعِيمُ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ، وَأَصْلُهُ الَّذِي لَا تَنَعُّمَ فِيهِ جِلْفُ الْخُبْزِ وَالْمَاءِ، «وَحَسْبُ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ»، هَكَذَا قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.
وَقَدْ يَكُونُ النَّعِيمُ فِي الْخَادِمِ كَمَا حَدَّثَ الْهُجَيْعُ بْنُ قَيْسٍ أَنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قِيلَ لَهُ: مَا يَكْفِي ابْنَ آدَمَ مِنْ الدُّنْيَا؟ قال: «مَا أَشْبَعَ جَوْعَتَك، وَسَتَرَ عَوْرَتَك؛ فَمَنْ كَانَ لَهُ خَادِمٌ فَهُنَاكَ النَّعِيمُ، فَهُنَاكَ النَّعِيمُ».
وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ النَّعِيمِ أَنْ يُقال لَهُ: أَلَمْ أَصِحَّ جِسْمَك؟ أَلَمْ أَرْوِك مِنْ الْمَاءِ الْبَارِدِ».
خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فَقال: إنَّ أَبَا الْهَيْثَمِ بْنَ التَّيْهَانِ قال: «إنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَعَمَدَ نَحْوَهُ، فَوَقَفَ فَسَلَّمَ فَرَدَّ عُمَرُ عَلَيْهِ السلام، فَقال لَهُ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَخْرَجَك هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قال: وَأَنْتَ مَا أَخْرَجَك هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قال أَبُو بَكْرٍ: أَنَا سَأَلْت قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَنِي.
قال: أَخْرَجَنِي الْجُوعُ، قال أَبُو بَكْرٍ: وَأَنَا أَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَك. فَجَلَسَا يَتَحَدَّثَانِ، فَطَلَعَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فَعَمَدَ نَحْوَهُمَا حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِمَا، فَسَلَّمَ فَرَدَّا عَلَيْهِ السلام فَقال: مَا أَخْرَجَكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟ فَنَظَرَ كل واحد مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ لَيْسَ منهما واحد إلَّا يَكْرَهُ أَنْ يُخْبِرَهُ.
فَقال أَبُو بَكْرٍ: خَرَجَ يَا رسول اللّه، وَخَرَجْت بَعْدَهُ، فَسَأَلْته مَا أَخْرَجَك هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قال: بَلْ أَنْتَ مَا أَخْرَجَك هَذِهِ السَّاعَةَ؟ فَقُلْت: أَنَا سَأَلْتُك قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَنِي.
قال: أَخْرَجَنِي الْجُوعُ.
قال: فَقُلْت لَهُ: أَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَك. فَقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: وَأَنَا أَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا.
قال: ثُمَّ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: تَعْلَمَانِ مِنْ أحد نُضِيفُهُ الْيَوْمَ؟ قالا: نَعَمْ، أَبُو الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيْهَانِ حَرِيٌّ إنْ جِئْنَاهُ أَنْ نَجِدَ عِنْدَهُ فَضْلًا مِنْ تَمْرٍ يُعَالِجُ جِنَانَهُ هُوَ وَامرأته لَا يَبِيعَانِ مِنْهُ شَيْئًا.
قال: فَخَرَجَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَاهُ حَتَّى دَخَلُوا الْحَائِطَ، فَسَلَّمَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فَسَمِعَتْ أُمُّ الْهَيْثَمِ تَسْلِيمَهُ فَفَدَتْهُ بِالْأَبِ وَالْأُمِّ، وَأَخْرَجَتْ حِلْسًا لَهَا مِنْ شَعْرٍ، فَطَرَحَتْهُ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ، فَقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أَيْنَ أَبُو الْهَيْثَمِ؟ قالتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنْ الْمَاءِ.
قال: فَطَلَعَ أَبُو الْهَيْثَمِ بِالْقِرْبَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ، فَلَمَّا رَأَى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بَيْنَ ظَهْرَانَيْ النَّخْلِ أَسْنَدَهَا إلَى جِذْعٍ، وَأَقْبَلَ يَفْدِي بِالْأَبِ وَالْأُمِّ، فَلَمَّا رَأَى وُجُوهَهُمْ عَرَفَ الَّذِي بِهِمْ.
فَقال لِأُمِّ الْهَيْثَمِ: هَلْ أَطْعَمْت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَيْهِ شَيْئًا؟ فَقالتْ: إنَّمَا جَلَسَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم السَّاعَةَ.
قال: فَمَا عِنْدَك؟ قالتْ: عِنْدِي حَبَّاتٌ مِنْ شَعِيرٍ.
قال: كَرْكِرِيهَا وَاعْجِنِي، وَاخْبِزِي، إذْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ الْخَمِيرَ.
وَأَخَذَ شَفْرَةً، فَقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: إيَّاكَ وَذَوَاتِ الدَّرِّ فَقال: يَا رسول اللّه، إنَّمَا أُرِيدُ عَنَاقًا فِي الْغَنَمِ.
قال: فَذَبَحَ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ بِذَلِكَ إلَى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ فَأَكَلَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَاهُ قال: فَشَبِعُوا شِبْعَةً لَا عَهْدَ لَهُمْ بِمِثْلِهَا، فَمَا مَكَثَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلَّا يَسِيرًا، حَتَّى أُتِيَ بِأَسِيرٍ مِنْ الْيَمَنِ، فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تَشْكُو إلَيْهِ الْعَمَلَ وَتُرْبَةَ يَدِهَا، وَتَسْأَلُهُ إيَّاه.
قال: لَا، وَلَكِنْ أَعْطِيهِ أَبَا الْهَيْثَمِ، فَقَدْ رَأَيْت مَا لَقِيَهُ هُوَ وَمِرْيَتُهُ يَوْمَ ضِفْنَاهُمْ.
قال: فَأَرْسَلَ إلَيْهِ فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ، فَقال: خُذْ هَذَا الْغُلَامَ يُعِينُك عَلَى حَائِطِك، وَاسْتَوْصِ بِهِ خَيْرًا.
قال: فَمَكَثَ الْغُلَامُ عِنْدَ أَبِي الْهَيْثَمِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ، ثُمَّ قال: يَا غُلَامُ، لَقَدْ كُنْت مُسْتَقِلًّا وَأَنَا وَصَاحِبَتِي بِحَائِطِنَا، اذْهَبْ، فَلَا رَبَّ لَك إلَّا اللَّهُ. قال: فَخَرَجَ الْغُلَامُ إلَى الشَّامِ»
.
وَرَوَى عِكْرَاشُ بْنُ ذُؤَيْبٍ: قال: «بَعَثَنِي بَنُو مُرَّةَ بْنِ عُبَيْدٍ بِصَدَقَاتِ أَمْوَالِهِمْ إلَى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فَقَدِمْت عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ، فَوَجَدْته جَالِسًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ قال: ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَانْطَلَقَ بِي إلَى بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، فَقال: هَلْ مِنْ طَعَامٍ؟ فَأَتَيْنَا بِجَفْنَةٍ كَثِيرَةِ الثَّرِيدِ وَالْوَدَكِ، وَأَقْبَلْنَا نَأْكُلُ مِنْهَا، فَخَبَطْت بِيَدِي فِي نَوَاحِيهَا، وَأَكَلَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَقَبَضَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى عَلَى يَدِي الْيُمْنَى، ثُمَّ قال: يَا عِكْرَاشُ؛ كُلْ مِنْ موضع واحد، فَإِنَّهُ طَعَامٌ وَاحد.
ثُمَّ أُتِينَا بِطَبَقٍ فِيهِ أَلْوَانُ الرُّطَبِ؛ أَوْ مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ شَكٌّ قال: فَجَعَلْت آكُلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَجَالَتْ يَدُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فِي الطَّبَقِ وَقال: يَا عِكْرَاشُ؛ كُلْ مِنْ حَيْثُ شِئْت،
فَإِنَّهُ مِنْ غَيْرِ لَوْنٍ وَاحد، ثُمَّ أُتِينَا بِمَاءٍ، فَغَسَلَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ، وَمَسَحَ بِبَلَلِ يَدَيْهِ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَرَأْسَهُ، وَقال: يَا عِكْرَاشُ؛ هَذَا الْوُضُوءُ مِمَّا غَيَّرَتْ النَّارُ»
.
وَقال الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْءِ أَنْ يَتَوَسَّعَ فِي الطَّعَامِ وَيَتَلَذَّذَ، وَيُسَمِّيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَيَحْمَدَهُ، وَلَا يَصْرِفَ قُوَّتَهُ الْمُسْتَفَادَةَ بِذَلِكَ فِي مَعْصِيَتِهِ، فَإِنْ سُئِلَ وَجَذَبَتْهُ سَعَادَتُهُ فَسَيُوَفَّقُ لِلْجَوَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. اهـ.